بالنسبة للشخص العادي، ربما يعيد اسم «هايزنبرج» إلى أذهاننا إحدى الفكرتين: إما شخصية مدرس الكيمياء الذي تحول إلى إمبراطور الميثمفيتامين في مسلسل (Breaking Bad) والذي قام بدوره الفنان براين كرانستون، أو شيء ما عن مبدأ يُسمى عدم اليقين. ولكن ما هو مبدأ عدم اليقين، ومن هو «هايزنبرج» هذا؟
الأيام الأولى لعلم الأشياء بالغة الصغر
ولد فيرنر كارل هايزنبرج في 5 ديسمبر من عام 1901، وكان عالمًا بارعًا ولكنه عانى من بعض الصعوبات؛ فعندما تعلق الأمر بدورات معمل الفيزياء أثناء الجامعة، كان طالبًا ضعيفًا. كانت الفيزياء النظرية ما تزال في مهدها آنذاك، وبينما عرف أساتذته أنها أمر سهل بالنسبة لهايزنبرج، إلا أنهم اعتقدوا أن عليه امتلاك بعض أساسيات الفيزياء التجريبية.
وعلى إثر ذلك، كتب هايزنبرج رسالة الدكتوراة في مجال ديناميكا الموائع (hydrodynamics)، والتي كانت معقدة للغاية لدرجة أن العلماء الآخرون استغرقوا 25 عامًا ليأكدوا استنتاجاته، كما كان عليه أن يجيب على أسئلة حول كل مجال من مجالات الفيزياء في امتحاناته الشفهية.
أجاب الشاب هايزنبرج، ذو الواحد وعشرون عامًا، على أسئلة في مجالات ديناميكا الموائع والرياضيات لدى أحد أساتذته ببراعة شديدة، بينما لم يجب بنفس البراعة على أسئلة أحد الأساتذة الآخرين، لدرجة أنه عندما احتسب الاثنان متوسط درجاته (A – F) حصل على درجة نهائية (C) في الدكتوراة.
ولحسن الحظ، لم يثبط هذا من عزيمة هايزنبرج؛ فمنذ أن بدأ دراسته الجامعية إلى الوقت الذي عُيّن فيه كمدرس مساعد في جامعة جوتينجن Göttingen))، كان قد تدرب في ثلاثة من أهم المراكز الرائدة في العالم للفيزياء النظرية، على يد ثلاثة من أبرز علماءها في العالم: أرنولد سومرفيلد، وماكس بورن، ونيلز بور. كما أنه عقد صداقة مع فولفجانج باولي، وهو شاب فيزيائي عبقري آخر، والذي له مبدأ فيزيائي يحمل اسمه. كان هايزنبرج على استعداد لتغيير مستقبل الفيزياء النظرية، بغض النظر عن درجاته الجامعية.
كان محور التركيز الرئيسي في الفيزياء النظرية آنذاك يتعلق ببنية الذرة. فاقترح كل من نيلز بور وأرنولد سومرفيلد أن بنية الذرة مشابهة لدوران الكواكب حول الشمس: إلكترونات سالبة الشحنة تدور حول نواة موجبة الشحنة. بحيث تُحتجز الإلكترونات في مدارات محددة تتوافق مع كميات ثابتة -أو كوانتا- من الطاقة، ويمكن أن تغير مدارها فقط في حالة إذا امتصت أو أطلقت نفس كمية الطاقة المطلوبة للمدار التالي.
وعندما يحدث ذلك، فإن الذرة في المقابل تطلق الضوء. مُنحت هذه النظرية اسم «نظرية الكم» للذرة، وبينما كانت لدى هذه النظرية بعض المشاكل (نحن نعرف الآن أن هذا ليس شكل الذرات الحقيقي)، إلا أنها اقترحت بعض الأفكار الهامة التي أصبحت في المركز من ميكانيكا الكم.
أولها فكرة أن الطاقة توجد في كميات فيزيائية (كوانتا)، وليست بالضرورة كموجة مستمرة. وثانيها فكرة أن الضوء (وكل المواد على المقاييس متناهية الصغر) يمكن وصفه بأنه جسيم وموجة في ذات الوقت، وهو مفهوم يُعرف الآن باسم ازدواجية الموجة والجسيم (wave-particle duality).
كلما عرفت أقل
ظهور هذه المشاكل في النظرية القديمة أدى إلى ازدهار الأبحاث: نشر هايزنبرج مفهومًا جديدًا عُرف باسم «ميكانيكا المصفوفة»، بينما اقترح إرفين شرودنجر (فيزيائي آخر ارتبطت باسمه فكرة فيزيائية شهيرة) مفهومًا أطلق عليه «الميكانيكا الموجية». ناقش الفيزيائيان نظرياتهم، لكن لم ينتهي أي منهما لشرح الصورة الكاملة للعالم الكمي.
إن ما احتاج إليه المجال الكمي كان تفسيرًا يساعد على ربط فيزياء الكم لدراسة الظواهر متناهية الصغر بالفيزياء الكلاسيكية لدراسة الظواهر على مقياس أكبر. لم يكن هذا القول أسهل من فعله فحسب، ولكن أدرك هايزنبرج أنه أمر مستحيل بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ يمكنك أن تأخذ جسيمًا كلاسيكيًا، مثل كرة البيسبول، لتعرف دائمًا موضعها وزخمها الحركي الفيزيائي، ولكنك عندما تحاول فعل الشيء ذاته مع جسيم كمي، يبدأ عدم اليقين في الظهور.
فكلما عرفت أكثر عن موقع الجسيم، كلما عرفت أقل عن زخمه الحركي. لم يكن هذا بسبب أن الباحثون معرضون للأخطاء، ولكن لأن مبدأ عدم اليقين متأصل في ميكانيكا الكم.
كتب كل هذه الفرضيات في رسالة إلى صديقه باولي، والتي تحولت في النهاية إلى ورقة بحثية منشورة، قدمت للعالم مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج.
حسنًا، كيف يعمل مبدأ عدم اليقين؟ يعود كل هذا إلى ازدواجية الموجة والجسيم، والطريقة التي يؤثر بها فعل الرصد أو الملاحظة عليها. فكما أظهرت إحدى التجارب الشهيرة، أن الطريقة التي يتصرف بها الضوء تعتمد على كيفية رصده؛ قد يتصرف كموجة مستمرة عندما يُترك وشأنه، لكن إذا استخدمت كاشفًا لقياس المكان الذي يسري فيه، فإنه يتصرف كجسيم.
وبذات الكيفية، إذا حاولت قياس سرعة الضوء، فأنت تقيسه كموجة، ولا يمكنك معرفة أي شيء عن موقعه. بينما إذا حاولت قياس موقعه، فأنت تقيسه كجسيم، ولا يمكنك معرفة أي شيء عن سرعته. ويرجع هذا جزئيًا إلى أن هذا القياس، مثلًا لسرعة جسيم كمي، يجعل الجسيم في مكان ما ولكنه غير معروف بالتحديد، مما يجعل أي قياس لموقعه غير مؤكد.
يبدو مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج ضبابيًا، هل يمكننا حقًا معرفة أي شيء؟
لكنه في الواقع يشرح بعض الظواهر الرئيسية الغريبة لميكانيكا الكم. إحداها هي النفق الكمي، أو الطريقة التي يمكن للجسيمات مثل الإلكترونات أن تعبر من خلالها جدارًا صلبًا؛ فإذا كنت تعرف سرعتها، فلا يمكنك أن تعرف بالضبط أين سينتهي بها المطاف، أو أنها لن تظهر على الجانب الآخر من الجدار.
وينطبق ذات الأمر على مفهوم «الفراغ الكمي»، الذي يذكر أن المساحات الخالية مملوءة بالفعل بما يسمى بـ «الجسيمات الافتراضية» التي تخرج باستمرار من الوجود.
ولأن مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج يمكن التعبير عنه من حيث الطاقة والزمن، فمن الممكن أن تسمح لحظات قصيرة للغاية -فترات زمنية معروفة جيدًا- بالكثير من عدم اليقين في طاقة نظام كمي، حتى يمكن للجسيمات أن تظهر وتختفي مرة أخرى.
لا يوجد ما يخيف بشأن مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج؛ فهو محاولة لتفسير الواقع كما هو عليه بالفعل.