اليوم أكمل ثمانية أعوام من العمل في مجال النقاش والحوار، رأيت خلالها العديد من التجارب والشخصيات المشاركة في النقاش، وتوليت إدارة ما يزيد عن 300 جلسة نقاش. لذلك أدرك تمامًا أهمية الأحاديث في حياتنا، وكيف تساهم في بناء شخصياتنا ومعرفتنا بالعالم بصورة كبيرة جدًا.
على الجانب الآخر، ولأننا نفتقد لهذه الثقافة، فإنّ الأمر أحيانًا يخلق حالة من المشاعر السلبية، نتيجة لعدم فهم المشاركين في الحديث بكيفية إدارته أو التعامل معه، مما يدفع البعض لتجنب المشاركة في أي حديث؛ إيمانًا منهم بأنّ هذا هو الأفضل لهم، من منطلق أنّه طالما غابت الفائدة، فعلى الأقل تجنب الضرر.
في الواقع هذا الأمر يزيد من الفجوة ما بيننا كأفراد في المجتمع، فنحن بحاجة دائمة إلى الحديث لنصبح أكثر ترابطًا، بجانب أنّ النقاشات تمنحنا العديد من الفوائد كما ذكرت، وهو الأمر الذي أعرفه عن تجربة حقيقية، ويبقى السؤال في كيفية حل هذه المعضلة؟ وتكون الإجابة في الاستعانة بمنهجية سليمة، تكون مسئوليتها تنظيم الأحاديث في حياتنا، وتجعلنا قادرين على الاستفادة منها والخروج بأفضل النتائج في النهاية.
ما هي أشكال الحديث في حياتنا؟
يعتقد البعض أنّ الأحاديث في حياتنا تتشابه فيما بينها، وأنّ كل تلك المسميات تعبر في النهاية عن فكرة واحدة. في الواقع هذه النقطة ليست صحيحة، بل وتصنع الكثير من المشكلات نتيجة لعدم إدراكنا ماهية الحديث الذي نخوضه بالتحديد، فيحدث سوء فهم بين الطرفين.
يقول الدكتور ستيفن بروكفيلد عن هذا الأمر (دكتور متخصص في تعليم البالغين، وله كتب عديدة في هذا المجال) أنّ أحاديثنا تأخذ ثلاثة أشكال رئيسية:
1. المحادثة
تبادل في المشاعر والأفكار، إذ يسود في حينها تعاون بين جميع الأفراد المشاركين في المحادثة.
مثال: محادثاتنا العادية على مواقع التواصل الاجتماعي أو الهاتف أو في لقاءات الأصدقاء والعائلة وخلافه.
2. الحوار
التفاهم بين أطراف تمتلك عقول واعية وتسعى للوصول إلى حل نهائي. يتكون من جزئين:
* الفهم: وضع الذات بدلًا من الآخر من أجل رؤية العالم كما يراه الشخص.
* التبادل: وفقًا لما يقوله الآخرون، نبدأ في التعمق وتغيير فهمنا للأمور.
مثال: حل المشكلات غالبًا يقوم على الحوار، نظرًا لأننا نحتاج إلى الوصول إلى نتيجة في النهاية، فلا تظل الأشياء معلّقة.
3. النقاش
عملية مبادلة في الأفكار والآراء، لكن في هذه الحالة لا توجد نقطة اتفاق معينة نسعى لإدراكها من البداية.
مثال: تبادل الرأي حول عمل فني أو أدبي، يخضع بالأساس للتذوق الشخصي، وبالتالي لا يمكن توقع النتيجة المرغوب الخروج بها من الحديث، أو إجبار أحدهم لتبني وجهة نظر معينة حول العمل.
المقصد الرئيسي وراء عرض الأشكال الثلاثة هو التأكيد على أنّ إدراك نوعية الحديث الذي نخوضه، يؤثر على الناتج النهائي لما نخرج به، وكيف أنّ كل نوع يساهم في بناء معرفتنا وشخصيتنا وتفاعلنا معًا في المجتمع.
فعلى مستوى العلاقات الشخصية المقربة والتعاملات المعتادة، نحتاج أكثر إلى التعبير عن مشاعرنا وأفكارنا بحرية دون أي ضغوطات أو خوف من تعليقات الآخرين، فتظهر أهمية المحادثة.
أمّا الحوار يأخذ أهميته عند رغبتنا في التعامل مع المشكلات التي تواجهنا، فتظهر أهمية محاولة فهم الآخرين في هذا الجزء، وهذا ما تعبر عنه حالة الذاتية المشتركة، أي أننا نندمج سويًا في الحوار، وكذلك مسألة العقول الواعية التي تدرك أننا لا بد وأن نتجاوز هذه المشكلة، حتى يمكننا أن نصل إلى نتيجة في النهاية، ومن ثم نعبر إلى المرحلة التالية في حياتنا.
في حين أنّ النقاش يساهم في بناء شخصياتنا وقدراتنا على تكوين آراء شخصية خاصة بنا في الحياة، في مناخ يسمح لنا بعرض واستقبال الأفكار، دون تخوّف من إجبار أحدهم لنا على الاقتناع بما يريد.
نظرية الفعل التواصلي
كما جاء في المقدمة، فإنّ التواصل فيما بيننا هو احتياج رئيسي في الحياة، ما دمنا نرغب في العيش معًا في مجتمع واحد، وهو ما رأيناه بوضوح في الفقرة الماضية. وإذا لم تكن هناك ضوابط تحكم هذا الأمر، فإننا بساطة سنكون في حالة من الجدال اللانهائي، والصراع الذي لا ينتهي. في الواقع، نحن نعيش في هذا الأمر يوميًا في كل النقاشات التي يتم طرحها، سواءً على مواقع التواصل الاجتماعي أو في التجمعات العاديّة، فيظن البعض في النهاية أن الحديث هو مجرد مضيعة للوقت والمجهود.
لذلك تأتي “نظرية الفعل التواصلي” لعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرمس، والتي قام بوضعها عام 1984، لتقدم لنا تصورًا عمّا يجب أن تكون عليه أحاديثنا سويًا، أيًا يكن عدد الحضور الموجودين أو القضية المطروحة في الحديث، فلا بد من الحرص على وجود هذه المكونات.
- الشمولية وسهولة الفهم: عرض ما نراه كاملًا بوضوح، بحيث يمكن للآخرين فهمه واستيعابه بسهولة.
- الحقيقة: توفير المعلومات أو الأدلة التي تدعم الرأي، نظرًا لأهمية الدليل في الاتّفاق أو الاختلاف على شيء، بعيدًا عن التوجهات الشخصية.
- الفرصة: الالتزام بقواعد الحديث الموجودة، والحرص على منح الآخرين فرصتهم للحديث، كما حصلنا نحن على فرصتنا.
- حسن النية: المحاولة لاستيعاب آراء الآخرين جيدًا، وعدم التعصب أو الانحياز لوجهة النظر بصورة مطلقة، أو المشاركة في الحديث لإثبات صحة ما نراه فقط، دون محاولة فهم الآخرين.
وهذا لا يعني بالضرورة تغيير وجهة النظر الشخصية في النهاية، لكن الأهم هو التأكد من استيعاب باقي المشاركات في الحديث.
تحدث هذه الادّعاءات الأربعة تحدث في التوقيت ذاته بشكل متوازي لا متتالي، أي أننا في حاجة دائمة إلى الالتزام بها معًا، وأنّها يجب أن تحدث من كل الأطراف المشاركة في الحديث.
والسؤال المطروح هنا: إلى أين يمكن أن يأخذنا الالتزام بهذه الادّعاءات الأربعة؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا إلى خلق الصورة الأفضل في الحديث؟
حالة الحديث المثالي
يتابع يورغن هابرماس في نظريته، ويوضح أن الالتزام بهذه الادّعاءات الأربعة سيؤدي إلى خلق “حالة الحديث المثالي”، وهي ما يؤمن هابرمس أنها الصورة المثلى في التواصل فيما بيننا، سواءً على المستوى الشخصي، أو حتى على مستوى العمل، فهذا النموذج يعتبر من النظريات المستخدمة في تحقيق الديموقراطية، حيث يتم أخذ رأي الجميع قبل المضيّ قدمًا في أي قرار، وتكون النتيجة معتمدة على مشاركة الجميع، فيُقدم لنا نموذج “حالة الحديث المثالي” ونتائجه في الشكل التالي:
1- سيتم الاستماع إلى جميع الآراء المتعلقة بالموضوع.
2- ستُقبل أفضل الآراء من الحديث بناءً على معرفتنا الحالية.
3- سيتم النقاش فقط على الأجزاء غير المتفق عليها، من أجل الوصول إلى نقطة اتّفاق.
ومن هنا تظهر لنا بعض القواعد التي يجب أن تتحكم في الحديث حتى نصل إلى الشكل الذي نريده كالتالي:
1- كل شخص يملك القدرة على التصرف أو التحدث يحق له المشاركة في الحديث.
2- أ- كل شخص يحق له طرح السؤال الذي يريده عن أي ادّعاء.
ب- كل شخص يحق له طرح أي ادّعاء والدفاع عنه في الحديث.
ج- كل شخص يحق له التعبير عن سلوكياته واحتياجاته ورغباته دون تردد.
3- لا يمكن منع أي شخص بالإجبار، سواءً من داخل أو خارج المجموعة، من ممارسة حقوقه السابقة.
العوائق في مواجهة حالة الحديث المثالي
يقدم نموذج “حالة الحديث المثالي” تصور جيد لما يجب أن تكون عليه أحاديثنا كافة، لنحقق دائمًا أكبر قدر من الاستفادة منها، لكن في الوقت الحالي تزداد صعوبة الوصول إلى هذه الحالة، بسبب وجود العديد من العوائق التي تمنع ذلك.
1. الخروج عن ادّعاءات نظرية الفعل التواصلي
تقوم نظرية الفعل التواصلي على أربعة ادّعاءات، وقد يحدث أن يخرج أحد أطراف الحديث عن هذه الادّعاءات، سواءً بدون قصد كعدم قدرته على عرض أفكاره بأبسط صورة ممكنة، أو عدم معرفته بالدليل المناسب لما يقول. أو عن عمد من خلال تعمد تزييف بعض الأدلة، أو من البداية بخوض الحديث بنية إجبار الآخرين على الاقتناع بوجهة نظره دون الاستماع لهم.
والنقطة الأخيرة بالتحديد تحتاج إلى تفكير عميق من كل شخص؛ فالمنطقي كما يرى البعض أنّه يشارك في أي حديث ليعرض وجهة نظره ويحاول إقناع الآخرين بها، وهذا ليس خاطئًا، لكن هذا هو موقف الطرف الآخر أيضًا، ونحن في النهاية لا نريد ترك الأشياء بدون حل، لذلك هنا أهمية ادّعاء “حسن النية” أنّه يجعل كل طرف حر فيما يطرحه، لكنّه كذلك على استعداد لاستقبال وجهات نظر الآخرين والاستجابة لها.
2. كسر القواعد
ذكر هابرماس في نموذجه بعض القواعد التي تتحكم في حدوث “حالة الحديث المثالي”، والتي يجب على كل المشاركين الالتزام بها، ومن المتوقع أن يحدث كسر في هذه القواعد كالسخرية من طرح الآخرين مثلًا، أو التقليل من شأنهم ومن أسئلتهم ووصفها بالغباء، مما يخلق حالة من الغضب بين المشاركين تدمر الحديث.
3. معرفتنا كأفراد في الحديث قد تكون خاطئة
ذكر هابرماس في النتائج المترتبة على “حالة الحديث المثالي” أنّ الأفضل من الآراء -بناءً على مستوى معرفتنا الحالي كأفراد مشاركة في الحديث- سيتم قبوله، وهذا الأمر إيجابي جدًا في أنّه يدعم فكرة وجود تصورات أخرى ربما لا نعرف عنها شيئًا، وأنّه يترك المساحة لتغيير المعرفة لاحقًا عند الوصول إلى الصحيح.
لكن المشكلة في أنّه عندما تكون معرفتنا خاطئة، فإنّ ما يحدث هو الصعوبة في تغيير هذه المعرفة للأسف، أو حتى الاستجابة لمن يقول بأنّ ما نراه هو شيء خاطئ، لا سيّما عندما يتعارض الأمر مع الثوابت التي يؤمن بها الأشخاص.
مثلًا قديمًا آمن الناس بأنّ الأرض هي مركز الكون، وعندما رأى كوبرنيكوس بأنّ هذا الأمر ليس صحيحًا، وأننا نتواجد ضمن مجموعة من الكواكب، والشمس هي مركز مجموعتنا، تعرّض للهجوم الشديد على أفكاره، والتي ثَبُتَ لاحقًا أنها الأفكار الصحيحة.
رغم وجود هذه العوائق التي تحدثنا عنها، لكن تبقى “حالة الحديث المثالي” من أهم النماذج التي يمكن الاستفادة منها في أي حديث، والتي من شأنها أن تساهم في تعلمنا لكيفية المشاركة في الأحاديث مع الآخرين بشكل صحيح، ومن ثم الاستفادة من هذا الأمر في بناء شخصياتنا وكذلك بناء المجتمع بشكل قائم على الوحدة والتعاون بين أفراده، وهو ما نحتاج إليه الآن.