يُمكن تبسيط مفهوم الذكاء الاصطناعي على أنه أي تقنية تُمكّن الحواسيب من محاكاة ذكاء الإنسان. لأربعة عقود مضت اُستخدم الذكاء الاصطناعي في منظومة الرعاية الصحيّة بما في ذلك مجال صناعة الدواء؛ كتصميم جزيئات الدواء، تأكيد الجودة، دراسات سوق الدواء التحليلية واليقظة الدوائية.
ما المقصود باليقظة الدوائية؟
اليقظة الدوائية -وتعرف أحيانًا بسلامة الدواء- هي كل الممارسات المتعلقة باكتشاف وجمع وفهم وتقييم والوقاية من تفاعلات الدواء الجانبية. سنتطرق في هذا المقال إلى أهمّ ما أحدثته ثورة الذكاء الاصطناعي بعد إدخالها في مهام وأنشطة اليقظة الدوائية.
ما هي فوائد استخدام استخدام الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية؟
إذا علمنا أنّه تُسجّل أكثر من 100,000 حالة وفاة سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكيّة وحدها نتيجة لأعراض الدواء الجانبية؛ هذه الأعداد والإحصائيات المرتفعة تدفعُ الجميع إلى البحث عن حلول عمليّة لهذه المشكلة بما في ذلك استخدام نظام الآلة. لنتعرّف على أهمّ الفوائد والمكاسب التي تحققت جرّاء إدخال الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية.
1. زيادة الإنتاجيّة في معالجة البيانات
شهدت السنوات الأخيرة زيادة هائلة في أعداد الأدوية واللقاحات التي تضخ بها الشركات المصنّعة إلى السوق، تبِع ذلك انفجارٌ في أعداد الحالات المرصودة للأعراض الجانبية لهذه الأدوية.
في النشاطات المتعلقة باليقظة الدوائية تُعدّ معالجة ودراسة تقارير الحالات الفرديّة من أكثر المهام صعوبة ودقة، ولذلك إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي المصممة جيّداً سيقلل من المجهود اليدوي في تصنيف البيانات حسب أهميتها، إعادة فحصها، تسريع معالجتها وترميزها وكتابة الخلاصات المهمّة بناءً على تحليل البيانات؛ ممّا يضمن نتائج أكثر جودة وفاعلية.
2. تقليل التكلفة
لا يختلفُ اثنان على أنّ تقليل التكلفة في الصناعة من أهمّ أهداف روّاد صناعة الدواء حول العالم. تُعدّ أنشطة معالجة الحالات (Cases processing) من أكثر أنشطة اليقظة الدوائية تكلفة؛ حيث يبلغ متوسط تكلفة معالجة الحالة الواحدة 90 دولاراً.
كنتيجة حتميّة لزيادة الإنتاجيّة بإدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن للشركات أن تقلل من تكلفة مهام اليقظة الدوائية بنحو 45%؛ وتقليل تكلفة مسح البيانات والتقارير بنحو 80%؛ كذلك تقليل تكلفة معالجة الحالة الواحدة بـ 30 %.
3. تسريع عمليات ومهام اليقظة الدوائية
تتضمن عمليّات اليقظة الدوائية كثيراً من المهام الإداريّة والروتينية داخل الشركة، الإجراءات القانونية لدى الجهات المنظمة لعمل شركات الدواء، معالجة البيانات الضخمة والمتابعة والتقييم. الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي من شأنه تقليل الفترات الزمنية المطلوبة لهذه المهام.
يشمل ذلك أيضاً سرعة الوصول إلى الإجراءات العمليّة والتوصيات المهمة بعد معالجة البيانات المتاحة وهو الهدف الأساسي لكل أقسام اليقظة الدوائية داخل شركات الأدوية أو الشركات المتخصصة في تقديم الخدمات المتعلقة بسلامة الدواء.
4. تأكيد وتحسين سلامة الدواء وتقليل المخاطر
يُعدّ هذا من أهمّ الفوائد وهو خلاصة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية. يتحقق ذلك نتيجة ل:
5. تحرير الموارد البشرية والمادية لمهام أولى
كالتقييم النهائي والمتابعة لسلامة وكفاءة المنتجات الطبية، تقييم نموذج الفائدة-الخطر لهذه المنتجات وتقصي الإشارات في تقارير السلامة.
6. تأكيد الخصوصية والأمان وتقليل الأخطاء البشرية
تبنّي أنظمة الذكاء الاصطناعي المصممة جيّداً والمدعّمة ببرامج الحماية من شأنه ضمان حماية سرية وخصوصية البيانات بكافة أنواعها وتقليل الأخطاء المتعلقة بإدخال ومعالجة البيانات؛ وبالتالي تقليل حدوث الخطر وحماية المرضى.
ما هي تقنيات الذكاء الاصطناعي؟
%70 من مهام ونشاطات اليقظة الدوائية يمكن أن يتم إدخالها بالكامل في نظام الآلة. ينبغي أن نتعرّف أولاً على تقنيات الذكاء الاصطناعي الثلاث التي تعدّ الأكثر أهمية في مجال اليقظة الدوائية وسلامة المرضى:
1. التعلم الآلي (Machine Learning (ML
هو الذي تستخدم فيه البيانات والخوارزميات والعمليات لتقليد كيفية تعلّم البشر. عندما يتلقى الكمبيوتر المزيد من البيانات فإنّه يحسّن تدريجياً دقته للتنبؤ بالنتائج.
2. التعلّم العميق (Deep learning (DL
فرع من التعلم الآلي ولكنه يصل إلى مستوى من التطور من خلال التعرف على الأنماط التي يعمل بها العقل البشري.
3. معالجات اللغة الطبيعية (Natural Language processing (NLP
هي عبارة عن برنامج يتعامل تلقائياً مع اللغة الطبيعية كالكلام والنص البشري. ترجمة اللغة وتحليل البيانات غير المهيكلة من أهم تطبيقات هذه التقنية.
التطبيقات الحالية للذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية
انتشرت الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية في الدول المتقدّمة في وقتنا الحالي بما يسهّل تحقيق أهداف تشريعات وأنشطة اليقظة الدوائية، فيما يلي نستعرض أهمّ هذه التطبيقات:
1. معالجة الحالات Cases processing
تقارير حالات تفاعلات الدواء الجانبية تأتي من مصادر مختلفة كالمرضى، مقدمي الرعاية الصحيّة، المقالات، المراجع الطبية، وسائل التواصل الاجتماعي، استبيانات مابعد دخول الدواء إلى السوق…إلخ وبأشكال مختلفة (صور، بيانات مهيكلة وغير مهيكلة، السجلات الطبية الإلكترونية …إلخ)، مما ينبئ عن اختلافات واضحة في معالجة هذه البيانات يدوياً فيما بعد حسب ما تقتضيه العوامل البشرية. إذاً ماذا يحدث بعد إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في أنشطة اليقظة الدوائية؟
- يمكن لتقنية معالجات اللغة الطبيعية NLP مسح الأعداد الكبيرة من التقارير واكتشاف واستخلاص وتصنيف بيانات تفاعلات الدواء الجانبية التي تردُ من أنواع المصادر المختلفة؛ بكفاءة قياسية وسرعة وفاعلية.
- تتعامل تقنية الOCR مع كافة أنواع بيانات أعراض الأدوية الجانبية الواردة على هيئة XML,Docx, PDFs …إلخ أو صوت أو صورة وتحويلها إلى نص، وترتيبها حسب الأولوية.
- تستطيع تقنية التعلم الآلي ML ترميز البيانات، القيام بمراجعة المخرجات مرتين، تعبئة البيانات الناقصة وإدراجها في قواعد بيانات السلامة بصورة قياسية.
- تستطيع تقنيات الذكاء الاصطناعي استنتاج الملاحظات وصنع القرارات بناءً على التقارير متشابهة الحيثيات والتي يزداد معدّل إرسالها إلى الجهات المختصة؛ بما يعدُ بتحديد أسباب المشكلة.
- يمكن لتقنية معالجات اللغة الطبيعية NLP ترجمة البيانات المرسلة بمختلف اللغات فوراً وترميز المصطلحات المستخدمة من قبل المستهلكين ومن هم خارج الممارسة الطبيّة إلى المصطلحات الطبيّة المعتمدة.
2. الجهات التنظيمية Regulatory Bodies
نجد أنّ الأنشطة والمهام المتعلقة باليقظة الدوائية داخل شركات ومصانع الدواء ولدى مقّدمي الرعاية الصحيّة تهدف بشكل أساسي إلى الالتزام بمقاييس ومتطلبات الأجسام التنظيمية في الدولة المعنيّة.
أ. شركات ومصانع الدواء
تُمكّن تقنيات معالجات اللغة الطبيعية NLP من:
- تعبئة المستندات في قواعد بيانات السلامة.
- تعبئة التقارير التي يجب إرسالها إلى الأجسام التنظيمية؛ مما يقلل الزمن ويضمن التوافق مع المقاييس والاشتراطات.
ب. الهيئات التنظيمية
باستخدام تقارير التفاعلات الجانبية للأدوية وتقارير السلامة للحالات الفردية ICSR تمكّن تقنيات تعلم الآلة ML الأجسام التنظيمية في الدول المختلفة من:
- إنشاء نماذج تستطيع توقع التفاعلات الجانبية للأدوية الجديدة وبالتالي وضع مقاييس جديدة حسب ما يتطلبه الأمر.
- تقييم مطابقة شركات ومصانع الدواء ومقدمي الرعاية الصحية للمقاييس والمواصفات التنظيمية لسلامة الدواء.
3. تحري الإشارة التنبؤي Predictive signal detection
يعدّ هذا المفهوم من أهم أهداف إدخال الآلة على أنشطة اليقظة الدوائية، ونعني بذلك حين تقوم تقنيات الذكاء الاصطناعي بإدارة البيانات الضخمة المجمّعة للحالات الفردية وتحليلها مما يعطي صورة متكاملة للأنماط المختلفة لأعراض الدواء الجانبية بما يمكّن المختصين من فهم وتوقّع المخاطر التي لم تكن معروفة في السابق لأدوية موجودة فعلياً في السوق وكذلك المخاطر التي يمكن أن تنتج من الأدوية الجديدة كليّاً.
بذلك استطاعت هذه التقنيات تقليل دورة حياة تصميم الدواء الجديد-التجارب السريرية تحديداً- بصورة كبيرة، بينما باستخدام نماذج التقصي التقليدية قد يستغرق الأمر من 10 إلى 15 عاماً.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي المستقبلية
1. التقارير السحابية (Cloud reports)
يعتقد الخبراء أنّ دمج البرمجة السحابية وتقنيات الذكاء الاصطناعي من شأنه تبسيط وتقليل تكلفة مهام اليقظة الدوائية وزيادة فاعليتها. يمكن لعمليات جمع البيانات وتحليلها أن تتم باستخدام التقنيات السحابية.
2. الطب الشخصي (Personalized medicine)
ونعني به أن يتم تعريف المحددات البيولوجية والفيسيولوجية والوراثية للفرد ليُعطى العلاجات المناسبة له فعليّاً. باستخدام الذكاء الاصطناعي يمكن للمختصين تحليل الآلاف من هذه المحدّدات و إيجاد توقعات أكثر دقة حول كيفية عمل أدوية محددة على أفراد بعينهم وبالتالي تقليل تفاعلات الدواء الجانبية وتحسين فاعليته.
3. وسائل التواصل الاجتماعي
تقدم وسائل التواصل الاجتماعي فرصة كبيرة لاستخلاص وتحليل البيانات. عن طريق تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن ترجمة هذه البيانات فوراً بعد رصدها وتصنيف الحالات الفردية بصورة أكثر دقة.
4. المحللات التنبؤية (Predictive Analytics)
سيتمكن المختصون من تحديد فئات الأفراد الأكثر والأقل عرضة لأعراض تفاعلات الدواء الجانبية، بما يمكنها من توجيه الرسائل الإعلامية المناسبة. بالإضافة لذلك لن تضطر الشركات دائماً لسحب الأدوية التي ترد تقارير بشأن تفاعلاتها الجانبية الخطرة من كل الأسواق حيث يتم تحديد الفئات التي تستجيب جيداً للدواء والسماح لها بمواصلة استخدام الأدوية.
جائحة كورونا وتقنيات الذكاء الاصطناعي
برز دور تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال جائحة كورونا حيث كانت الضرورة ملحة لإنتاج لقاحات فيروس كورونا خلال فترة قصيرة. بعد إنتاج اللقاح استقبلت هيئة الدواء والغذاء الأمريكية- مثلاً- قرابة مليون تقرير لحالات من أعراض اللقاح الجانبية خلال العام الأول فقط من إنتاجه. ساعد إدخال نظام الآلة على الاستجابة الأسرع لهذه التقارير والبلاغات وتخفيف الضغط بالاتصالات على مراكز خدمة العملاء، والتعامل الفعّال والدقيق مع كل هذه التقارير.
تحديات استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في اليقظة الدوائية
- عدم القدرة على تفسير النتائج والقرارات المستخلصة.
- تحديات تأكيد جودة وواقعية النتائج حيث لا يمكن الجزم بأنّها جيدة 100% ولذلك ينبغي مراجعتها من قبل الخبراء.
- تحتاج هذه التقنيات إلى أعداد ضخمة من البيانات ليتم تدريبها عليها، يمكن أن يعتبر ذلك استنفاذاً للموارد.
- المخاوف من استخدام البيانات لأغراض أخرى من دون أخذ موافقة الأفراد.
ختاماً؛ يجدر القول أنّه لا يمكن الاستغناء عن أحكام الخبراء و استنتاجاتهم العقليّة في كل مهام وأنشطة اليقظة الدوائية، لكن هذه التقنيات المهمة للذكاء الاصطناعي تزوّد أهل الاختصاص والخبرة بإضاءات وتوضيحات تمكّنهم من استنباط القرارات وتوقع وإدارة المخاطر بسرعة وكفاءة حتى في السيناريوهات المتداخلة والطارئة باستخدام النماذج القياسية التي يصممها الذكاء الاصطناعي.
🔥🔥🔥🔥